بقيع الغرقد
بصدق الولاء وتعبيرات الوفاء، وبعباراتٍ حزينة وعيونٍ دامعة، وببالغ الأسى نرفع أحرّ العزاء إلى أصحاب الكساء والعترة النجباء، لاسيّما خليفة الرحمن وحجّة الله في هذا الزمان، الإمام المهديّ المنتظر(أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى مراجعنا وعلمائنا الأعلام العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، وإلى شيعة علي بن أبي طالب(عليه السلام) بهذه المناسبة الأليمة، ذكرى استشهاد إمامنا الخامس الإمام محمد بن علي الباقر(عليه السلام)..
نعيش هذا اليوم السابع من ذي الحجّة واحدةً من سلسلة المصائب التي مرّت على أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، التي آلمَتْ قلب الرّسول(صلّى الله عليه وآله) وأحزنت ابن عمّه وبنته البتول (عليهما السلام)، وذلك برحيل وشهادة الإمام محمد بن علي الباقر عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام.
هو باقرُ علوم الأوّلين والآخرين ووارثُ جدّه خاتم النبيّين(صلّى الله عليه وآله)، ومشيّد شريعة جدّه سيّد المرسلين، ومَنْ أوصى له بالخلافة والإمامة من بعده أبوه زينُ العابدين(عليه السلام)، وخليفةُ الرسول الخامس الذي قيل بشأنه: إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله) قال لجابر بن عبد الله الأنصاري(رضوان الله عليه): إنّك ستبقى حتّى تلقى ولدي محمد بن علي(عليه السلام)، اسمه اسمي وشمائله شمائلي، يبقر علم الدين بقراً -أي يشقّه شقّاً- فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام..
وتشيرُ الروايات إلى أنّ الإمام الباقر(عليه السَّلَام) استُشهِد في أيّام حكم هشام بن عبد الملك، إذ قام إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، بدسّ السّم إليه (عليه السَّلَام) في عام 114ه، فأثّر السّمُّ في بدنِ الإمام الباقر(عليه السَّلَام) تأثيره، وأخذ يدنو من الموت وهو متوجِّهٌ إلى الله تعالى يتلو القرآن الكريم.
وبينما لسانُه مشغولٌ بذكر الله إذ وافاه الأجلُ المحتوم، وفاضت نفسُه المطمئنّة إلى ربّها راضيةً مرضيّةً، ثمّ قام وصيُّه وخليفتُه الإمام أبو عبد الله جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق(عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام) بتجهيز الجثمان الطَّاهِر لأبيه (عليه السَّلَام)، فغسّله وكفّنه بما أوصى به وصلَّى عليه، ونقل الجثمانَ المطَهَّر العظيم بالتَّهليل والتَّكبير وقد حفّت به النَّاس يلمسون نعش الإمام، ويبكون لمصابه (عليه السَّلَام) ويصرخون من لوعة فراقه الأليمة، وقد دُفن الإمام مُحَمَّد بن عَلِيّ البَاقِر (عليهما أفضل الصَّلَاة والسَّلَام) في بقيع الغرقد.
وشهد الإمامُ الباقر(عليه السلام) في بداية حياته الشريفة واقعةَ الطفّ ومجزرتها، وعاش المحنة التي مرّت على أهل البيت في طفولته، ورافق الرزايا والمصائب التي توالت على أبيه زين العابدين(عليه السلام) وبعد أبيه، ما يقرب من عشرين سنة من حكّام الجور في ذلك العصر.
ولقد نصّ على إمامته وخلافته أبوه الإمامُ زينُ العابدين(عليهما السلام) في كثيرٍ من المناسبات، منها قوله: (ألا وإنّه الإمام أبو الأئمّة، معدن العلم، يبقره بقراً، والله لهو أشبه الناس برسول الله -صلّى الله عليه وآله-).
كان من أبرز مميّزاته العلمُ الواسع، وقد برز علمُهُ هذا في فترة انتشار الفلسفة اليونانيّة وتوسّع الناس في المناظرات الكلاميّة وتعدّد المذاهب الفقهيّة والمدارس العقائديّة، ما استدعى بروز شخصيّاتٍ علميّة هامّة تحمل على عاتقها مهمّة ترسيخ دعائم الفكر الإسلاميّ الأصيل، وتقوية دعائم الفقه الشيعيّ في مقابل المذاهب المختلفة، فكان تأسيسُ جامعة أهل البيت التي حوت عدداً كبيراً من العلماء، حيث كانوا يأتون إلى المدينة المنوّرة من مختلف الأقطار الإسلاميّة، لينهلوا من الإمام الباقر(عليه السلام) علومهم ومعارفهم.