بقيع الغرقد
فُجِع أهلُ بيت النبوّة(صلوات الله عليهم) ومحبّوهم وموالوهم في مثل هذا اليوم الخامس والعشرين من شوّال عام (148هـ)، برحيل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) سادس الأئمّة الأطهار من أهل البيت(عليهم السلام)، التي تُعدّ من الأحداث الخطيرة التي مُنِي بها العالَمُ الإسلاميّ في ذلك العصر، فقد اهتزّت لهوله جميعُ أرجائه، وارتفعت الصيحةُ من بيوت الهاشميّين وغيرهم، وهرعت الناس نحو دار الإمام وهم ما بين واجمٍ ونائحٍ على فقد الراحل العظيم، الذي كان ملاذاً ومفزعاً لجميع المسلمين.
تذكر الروايات أنّه لمّا وصل الأمرُ إلى المنصور الدوانيقيّ واطّلع على كثرة محبّي وأتباع الإمام الصادق(عليه السلام)، دعاه إلى العراق وصمّم على قتله خمس مرّات أو أكثر، لكنّه كان ينصرف عن عزمه في كلّ مرّةٍ بعد مشاهدة المعاجز العظيمة منه (عليه السلام).
تتابعت المحن على سليل النبوّة الإمام الصادق(عليه السلام) في عهد المنصور الدوانيقيّ، فقد كان الطاغيةُ يستدعيه بين مدّةٍ وأخرى، ويقابله بالشتم والتهديد ولم يحترم نسبه الشريف ومنزلته ومركزه العلميّ، وشيخوخته وانصرافه عن الدنيا إلى العبادة وإشاعة العلم، لم يحفل الطاغية بذلك كلّه، فقد كان الإمام شبحاً مخيفاً له وصمّم المنصور على اغتياله غير حافلٍ بالعار والنار، فدسّ إليه سمّاً فاتكاً على يد عامله فسقاه به، ولمّا تناوله الإمام(عليه السلام) تقطّعت أمعاؤه، وأخذ يُعاني الآلام القاسية، وأيقن بأنّ النهاية الأخيرة من حياته قد دنت منه.
وأخذ الموتُ يدنو سريعاً من سليل النبوّة، وفي اللّحظات الأخيرة من حياته أخذ يوصي أهل بيته بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، ويحذّرهم من مخالفة أوامر الله وأحكامه، كما أخذ يقرأ سوراً وآياتٍ من القرآن الكريم، ثم ألقى النظرة الأخيرة على ولده الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، وفاضت روحه الزكيّة إلى بارئها في (25 شوّال سنة 148هـ).
وقام الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) وهو مكلومُ القلب، فأخذ في تجهيز جثمان أبيه، فغسّل الجسدَ الطاهر، وكفّنه بثوبَيْن شطويَّيْن -مفرده شطا إحدى قرى مصر- كان يُحرِم بهما، وبقميصٍ وعمامةٍ كانت لجدّه الإمام زين العابدين(عليه السلام)، ولفّه ببردٍ اشتراه الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) بأربعين ديناراً، وبعد الفراغ من تجهيزه صلّى عليه ولدُه الإمام الكاظم(عليه السلام) مع مئات المسلمين.
وحُمِلَ الجثمانُ المقدّس على أطراف الأنامل تحت هالةٍ من التكبير والتهليل، وقد غرق الناسُ بالبكاء والعويل، وهم يذكرون فضل الإمام وعائدته على هذه الأُمّة بما بثّه من الطاقات العلميّة التي شملت جميع أنواع العلم، وجيء بالجُثمان الشريف إلى مقبرة البقيع، فدُفِنَ في مثواه الأخير بجوار جدّه الإمام زين العابدين وأبيه الإمام محمد الباقر(عليهما السلام).