بقيع الغرقد
لقد اهتم الإمام الصادق عليه السلام بموضوع التربية؛ لأنه وجد الأمة بحاجة إلى المربي الفاضل، بعد أن تعرضت إلى التشويه الأموي، وهي تتهيأ لاستقبال التشويه العباسي، فأخذ على عاتقه نقل الخبرات إلى الأجيال التي تستعد لاستقبال الحياة، وقد جاء الفيلسوفان "دوركايم" و"لودج" بعد أربعة عشر قرنا ليضعا لهذا المفهوم تعريفا، حيث قال"دوركايم": "التربية هي الإجراء الذي تمارسه الأجيال الأكبر سناً على الأجيال التي لم تستعد بعد للحياة الاجتماعية" وقال "لودج": "المعنى الواسع للتربية يعني أنها تعادل الخبرة أي خبرة الكائن الحي في تفاعله مع بيئته الطبيعية".
ومن يبحث بعقل وحياد، يجد مسعى الإمام الصادق عليه السلام مرتبطاً من جانب بمعنى الإسلام، ولاسيما أن غاية الإسلام كانت إسعاد الإنسان، ومن جانب آخر بسلامة المجتمع المسلم نفسه، فغاية الإمام كانت رجاء تحقيق السعادة للمجتمع، عن طريق نشر الإيمان الحقيقي، ومنظومة أخلاق الإسلام الفاضلة بين الناس، بعد أن حجر عليها السياسيون واستعاضوا بأخلاقهم السياسية عنها. وقد أحسن الفيلسوف "توماس الاكويني" القول حينما وصف التربية بأن: "الهدف منها تحقيق السعادة من خلال غرس الفضائل العقلية والخلقية".
وربما لهذا السبب، نجد اختلاف مناهج مدرسة الإمام الصادق عليه السلام عن غيرها من المدارس بالكامل، حيث نجدها تضم علوم الدين والحكمة والفلسفة والأدب، ونجد الإمام نفسه معصوماً وحكيماً وفيلسوفاً وأديباً.
هنا قد يسأل سائل: ما الفرق بين الحكمة والفلسفة؟ وأقول جواباً: إن الإمام الصادق عليه السلام نفسه هو الذي أوضح الفرق بين الاثنين، بعد أن وجد بأن العلم يقود الإنسان عادة للتوصل إلى نتيجة مهما كانت صغيرة، أما الفلسفة فليس شرطا أن توصلك إلى النتيجة التي تبحث عنها أو إلى أي نتيجة أخرى.
طيب، إذا كان الأمر كذلك، وكانت الفلسفة مجرد عبث، فلماذا لم يهملها وبقيت تدرس في مدرسته؟ والجواب على ذلك: إن الإمام لم يعلن عجز الفلسفة الكلي عن التوصل إلى نتيجة، فهو يعرف أن الفلسفة تتطلع إلى معرفة الحقيقة المطلقة، وبالتالي قد تكون سببا مستقبليا في معرفة كنه الخالق الذي تبحث عنه البشرية منذ وعيها الأول، وقد تكون سببا في معرفة خلق الكون والبشر، وهما الأمران اللذان شغلا البشر على مر التاريخ، وقد تقود الفلسفة إلى معرفة مصير الإنسان، ومعرفة نهاية العالم. وهي بالتالي أداة من أدواة البحث، لابد وان تؤدي دورها، ولابد وان يكون هذا الدور عظيماً بكل ما للكلمة من معنى، فضلاً عن كونها أداة تدفع العقل إلى العمل والتفكير، وهي بهذا المعنى تصبح مفيدة حتى مع عدم تمكنها من الوصول إلى نتيجة آنية.
صالح الطائي